الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وحكى المازري في شرح مسلم قولًا رابعًا جمع به بين القولين فقال: كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسري بروحه الشريفة عليه الصلاة والسلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه عليه الصلاة والسلام قوله: أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب، وليس معنى الإسراء بالروح الذهاب يقظة كالإنسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقًا للعادة ومحلًا للتجب أيضًا إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف، والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخًا ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية.وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضعا فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلابد من القول بالصحة المذكورة والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمله، وقال العلامة البيضاوي: الاستخالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفًا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال، وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان، أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الاجرام والابعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة.والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين، وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جدًا، وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول: قرص الشمس ضعف كرة الأرض فاي معنى لما زاده، وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال: مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال 3953439 ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءًا من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعة من المسافة 817551 ميلا وسدس ميل وخمس ربع أو ربع خمس ميل، ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك 817551 ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخًا من مقعره والله تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان الله تعالى ما أعظم شأنه اهـ.وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق.06915 أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فاين الأقل من ثانية.وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة ههنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني هي الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلًا للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزأً من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزأً من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءًا من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزأً من يوم بليلته، ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين، وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلًا لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين وهو بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصًا من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزأً من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي، وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة، وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك إذن قسمة ضيزى، نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع، على كتب القوم، ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما نرجو أن يبل به الغليل، هذا والعلماء درجات والله تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل الله سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك، وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة، والبحث في ذلك طويل، ولا يستدل على الاستحالة بلزوم الخرق والالتئام، وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول: إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله، ولم تتعرض الآية لأنه صلى الله عليه وسلم كان في الإسراء به محمولًا على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أسري به على البراق {إلى المسجد الاقصا} وهو بيت المقدس، ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز، وقال غير واحد: إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين، وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث.واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل: ركب خلفه عليه الصلاة والسلام، والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق.واختلف أيضًا في استمراره عليه عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماء فقيل: عرج عليه، والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه، وجاء في وصفه وعظمه ما جاء، ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه صلى الله عليه وسلم على البراق.ومن الأكاذيب المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى، وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء خمسة مراكب، الأول: البراق إلى بيت المقدس، الثاني: المعراج منه إلى السماء الدنيا، الثالث: أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة، الرابع: جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى، الخامس: الرفرف منها إلى قاب قوسين، ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين، وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء الله تعالى وقد كان له عشر مراقي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش والله تعالى أعلم.ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى فلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى، ثم لما رجع عليه الصلاة والسلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه، ولعمري إنه حديث خرافة لا مستند له شرعًا ولا عقلًا.وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية:
ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكانًا، وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات، وقال بعضهم: أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني: ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارًا ما عليه مزيد، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات، ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلًا إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله: والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة والسلام في مسيره كانت باقية على امتدادها، ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى واديًا طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه؛ وكانت المسافة في غاية الطول، ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى الله تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى قدر ثلثمائة ألف سنة، وقيل: خمسين ألفًا، وقيل غير ذلك، وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة، وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر، وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا: المنع مكابرة، وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة والله تعالى أعلم بصحتها، ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام، ومثله في ذلك قول من قال: الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار، وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلابيب أبدانهم وقليل ما هم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضًا وذكر ما فيه والله تعالى الموفق.وإنما أسرى به صلى الله عليه وسلم ليلًا لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة والسلام فإن الليل وقت الحلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلًا إلا من هو خاص عنده وقد أكرم الله تعالى فيه قومًا من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار، وأيضًا الاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار، وأيضًا قالوا: إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وأيضًا أسري به ليلًا ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب.وقال ابن الجوزي في ذلك: إن النبي صلى الله عليه وسلم سراج والسراج لا يوقد إلا ليلًا وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم إن الآية ليست نصًا في دخوله عليه الصلاة والسلام المسجد الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك، وقوله سبحانه: {الذى لِمَنْ حَوْلَهُ} صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض، وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبلة لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله، وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس، وقيل: بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تنفجر من تحت صخرته والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال، والأربع التي يمنع من دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد؛ مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضًا وأبو داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة.
|